طعم الإيمان وحلاوته وطيب التمسك به
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فللإيمان الصادق في القلب حلاوة يشعر ويستشعر بها العابد
بل ويتلذذ بها ، وله طيب يعرف به طالما أنه علي كمال الإيمان مستمسك بواجباته ملتزم بحدوده منته عند نواهيه.
فقد أورد الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً».
الحديث أخرجه مسلم، حديث (34) وانفرد به عن البخاري، وأخرجه الترمذي في "كتاب الإيمان" "باب من ذاق طعم الإيمان" حديث (2623).
وقد ذكر أهل العلم أن الطعم ما يؤديه الذوق، والتذوق فعل نتيجته استبانة الطعم، فهو اختبار الطعم، وقد أثبت الحديث أن للإيمان طعمًا أما مذاقه فحلو، كما في حديث أنس في الصحيحين: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان» الحديث.
وهذه الحلاوة أداة تذوقها القلب واللسان والجوارح، ويجد المرء أثر ذلك في نفسه، بخلاف المطعومات فذوقها يكون باللسان وإثر ذلك ينبعث في النفس شعور يقتضيه المذاق بحسبه، فكذلك أعمال الإيمان منها ما يكون بالقلب ومنها ما يكون باللسان ومنها ما يكون بالجوارح ولكلها مذاق يجد المرء مقتضاه الحلو في نفسه، والقلب لا بد له من أثر في جميع ذلك فهو أصل الأعمال، وأنت ترى أن بعض الموفقين يحسن بكلمة طيبة إلى مظلوم أو مسكين فيجد في نفسه شعورًا عجيبًا، وآخر يعطي فقيرًا مالاً فما أن يتناوله من يده حتى ينصرف بشعور عجيب ينقذف في نفسه، وآخر يتفكر في كلام الله تعالى فيجد في نفسه شعورًا لا يعدله شعور بمتعة طعام ، والتذوق بغير اللسان وفضله على ما يجده من تذوق بلسانه مشهور معلوم يجده المرء حتى في كثير من متع الدنيا التي يحصلها الناس بالحق وبالباطل، وللناس فيما يعشقون مذاهب.
، وقديماً قال أحد العلماء:
سهـري لتنقيـح العلوم ألذ لي
من وصـل غانية وطيب عناق
وصرير أقلامـي على صفحاتها
أحلى من الدّوكـاء والعشاق
وألذ من نقر الفتـاة لدفهــا
نقري لألقي الرمـل عن أوراقي
وتفكري طربـا لحـل عويصـة
في الدرس أشهى من مدامة ساق
أأبيت سهـران الدجـى وتبيته
نوما وتبغي بعد ذاك لحـاقي؟!
وهذا ابن القيم رحمه الله يعرف الذوق تعريفاً مستمداً من فوائد شيخه، فيقول : "الذوق مباشرة الحاسة الظاهرة والباطنة للملائم والمنافر، ولا يختص ذلك بحاسة الفم في لغة القرآن، بل ولا في لغة العرب،
قال الله تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [سورة الأنفال ، الآية: :50،سورة الحج، الآية:22]
، وقال: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [سورة آل عمران، الآية:106-سورة الأنعام، الآية :30- سورة الأنفال، الآية :35- سورة الأحقاف، الآية:34]
، وقال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [سورة ص، الآية :57]، وقال: {فَأَذَاقَهَا اللَّه لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [سورة النحل، الآية :112]
، وهنا تتأمل كيف جمع بين الذوق واللباس ليدل على مباشرة المذوق وإحاطته وشموله، فأفاد الإخبار عن إذاقته أنه واقع مباشر غير منتظر، فإن الخوف قد يتوقع ولا يباشر، وأفاد الإخبار عن لباسه أنه محيط شامل كاللباس للبدن.
وفي الصحيح عنه: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً»، فأخبر أن للإيمان طعماً، وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب... وهذا الذوق هو الذي استدل به هرقل على صحة النبوة حيث قال لأبي سفيان: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟
فقال: لا. قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلوب. فاستدل بما يحصل لأتباعه من ذوق الإيمان، الذي إذا خالطت بشاشته القلوب لم يسخطه ذلك القلب أبداً؛ على أنه دعوة نبوة ورسالة لا دعوى ملك ورياسة. والمقصود أن ذوق حلاوة الإيمان والإحسان أمر يجده القلب، تكون نسبته إليه كنسبة ذوق حلاوة الطعام إلى الفم، وذوق حلاوة الجماع إلى إلفة النفس،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»، فللإيمان طعم وحلاوة يتعلق بهما ذوق ووجد، ولا تزول الشبه والشكوك عن القلب إلا إذا وصل العبد إلى هذه الحال فباشر الإيمان قلبه حقيقة المباشر فيذوق طعمه ويجد حلاوته والله الموفق" (مدارج السالكين: [3/89]).
وعلي هذا فليفتش كل منا عن حلاوة الإيمان في نفسه ومن لم يجد هذا الطعم، أو يعرف هذا التذوق، فليراجع إيمانه، وليتفحص صحة قلبه، وليعلم أن العيب فيه، وليتحسر على إصابته في أعظم الحواس.
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: "إن سرور القلب مع الله وفرحه به وقرة العين به لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا البتة وليس له نظير يقاس به وهو حال من أحوال أهل الجنة .
حتى قال بعض العارفين: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب! ولا ريب أن هذا السرور يبعثه على دوام السير إلى الله عز وجل، وبذل الجهد في طلبه وابتغاء مرضاته، ومن لم يجد هذا السرور ولا شيئاً منه فليتهم إيمانه وأعماله، فإن للإيمان حلاوة من لم يذقها فليرجع وليقتبس نوراً يجد به حلاوة الإيمان.
وقد ذكر النبي ﷺ ذوق طعم الإيمان ووجد حلاوته فذكر الذوق والوجد وعلقه بالإيمان فقال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً»
، وقال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار»،
وهذا ابن تيمية رحمه الله يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه! فإن الرب تعالى شكور؛ يعني: أنه لا بد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه وقوة انشراح وقرة عين فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول" (مدارج السالكين: [2/68]).
وقد اتخذه العلماء دليلا على أن من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ، فهو مؤمن، وإن ارتكب المعاصي الكبائر
ويستفاد من الحديث الشريف عدة فوائد منها:
أولا- الحديث دليل على أن للإيمان لذة يحس بها المؤمن ويذوقها، فيا سعادة من نال منها بحظ وافر نسأل الله من فضله.
ثانياً- أن الحديث فيه دليل على أن طعم الإيمان يذوقه من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولاً، والمقصود بالرضا القناعة بالشيء والاكتفاء به فلم يطلب معه غيره، فهو لم يطلب غير الله تعالى ولم يسع في غير طريق الإسلام، ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- بأن يجاهد نفسه في هذه المطالب، ولا شك من كانت هذه حاله سيجد للإيمان لذة وحلاوة فهذا هو معنى الرضا الحقيقي الذي يجد معه المرء حلاوة الإيمان.
وأوقفك على جمال وبيان ما ذكره الإمام القرطبي رحمه الله من أن الرضا على قسمين:
القسم الأول: رضا عام وهو ألا يتخذ غير الله ربا، ولا غير الإسلام دينا، ولا غير محمد -صلى الله عليه وسلم-رسولا، وهذا الرضا لا يخلو منه مسلم بل لا يصح إسلام إلا به فكل المسلمين يشتركون فيه.
والقسم الثاني: الرضا الخاص وهو ما تقدم بيانه بالرضا بالله أن يكتفي به ولم يطلب معه غيره فيرضى به مدبراً ويرضى عنه فيما قضى وما شرع، ولا يسعى في غير طريق الإسلام جاهدا في سلوك هذا الطريق المستقيم، وكذلك يسلك ما يوافق شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- في شؤون حياته، ومن كانت هذه حاله فاز بالإيمان العظيم الذي يخالط بشاشة قلبه. [انظر: المفهم بتصرف كتاب الإيمان، حديث (27)].
نسأل الله تعالى اللذة والحلاوة الإيمانية وطيب العمل الصالح في قلوبنا وحياتنا يا أرحم الراحمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق