الإيمان بالقدر خيره وشره
الإيمانُ بالقدرِ هو الأصلُ السادسُ من أصولِ الإيمانِ، قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (وتؤمن بالقدر خيره وشره).
ولفظُ القدرِ يُطلَقُ بمعنى التقدير، كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
(كتبَ الله مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلقَ السّماوات، والأرضَ بخمسين ألف سنة) أي: تقديرُ اللهِ لمقادير الأشياء.
ويُطلَقُ القَدَرُ على الشيءِ المقدَّرِ، فإذا حدثَ الآن حادثٌ للإنسان يقولُ: هذا قدرٌ، أي: هذا مُقَدَّرٌ قد قَدَّره الله، قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (وإن أصابَك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّرَ اللهُ وما شاءَ فعل).
القضاء
القضاءُ يُطلَقُ على عدّةِ معاني، ومنها الحُكْمُ، وأمَّا القَدَرُ فهو التقديرُ.
وكلٌّ منهما يُطلَقُ على اسمِ المفعولِ، فيُطلَقُ القضاءُ على المقضيِّ، والقدرُ على المقدَّرِ، فتقولُ عن الشيءِ الواقعِ الذي حدثَ: هذا قدرُ اللهِ، وتقولُ: هذا قضاءُ اللهِ؛ أي: ما حكمَ به سبحانَه وتعالى.
فالقدرُ مِثلُ القضاءِ؛ فإنه يُطلّقُ ويُرادُ به الحُكْمُ، وهو فعلُ الربِّ تعالى، ويُطلقُ ويُرادُ به المقضي، وهو ما قضاه اللهُ وشاءَه من المخلوقات، ولهذا يقولُ المسلمونَ فيما يحدثُ: هذا قضاءٌ وقدرٌ، أي: هذا أمرٌ مقضيّ مُقدَّرٌ، حَكَمَ اللهُ به، وقدَّرَه سبحانَه وتعالى.
ومن الأمورِ التي حدثتْ في الأمةِ الاختلافُ في القَدَرِ؛ ولهذا جاءَ في الآثارِ النهيُ عن الخوضِ في القدرِ؛ الخوضُ يعني: الكلامُ في القدرِ. والكلامُ في القدرِ على وجوهٍ: خوضٌ في الآياتِ، ودعوى التعارضِ بينها، والجدالُ في ذلك، وكذلك الكلامُ في شبهاتِ المُثْبتينَ -الجبرية-، والنافين -القدرية المعتزلة-، وكذلك الخوضُ في سِرِّ القدرِ، كلُّ هذا من الخوضِ المذمومِ.
أمَّا الكلامُ في القدرِ لبيانِ وجوبِ الإيمانِ به، وذِكْرِ الأدلّةِ على ذلك، وبيانِ أنَّ ذلك لا ينافي الشرعَ والأمرَ والنهيَ، وأنَّه لا بدَّ من الإيمانِ بهذا وهذا... فالخوضُ في القدرِ لبيانِ الحقِّ، ما يجبُ من الاعتقادِ؛ هذا مِنَ الكلامِ المشروعِ، ومِنَ الكلامِ في العلمِ النافعِ؛ لتحصيلِ الفرقانِ بين الحقِّ والباطلِ.
فلا يصحُّ إطلاقُ القولِ بتحريمِ الخوضِ في القدرِ، لكن إذا أُطلِقَ فالمُرادُ به: الخوضُ على غيرِ بصيرةٍ، ولا لغايةٍ شرعيّةٍ.
جاء في حديث الرسول صلي الله عليه وسلم : (وتؤمنَ بالقدرِ خيرِه وشرِّه).
لا شكَّ أنَّ المقدّراتِ المخلوقاتِ فيها خيرٌ وشرٌّ وحلوٌ ومرٌّ، فيها النِّعَمُ والمصائبُ، فيها طيّبٌ وخبيثٌ، وحسنٌ وقبيحٌ، هذه المخلوقاتُ فيها هذا التنويعُ. فإذا أُريدَ بالقَدَرِ: المقدَّرَ فهذا أمرٌ ظاهرٌ، نؤمنُ بأنَّ كلَّ الأشياءِ مُقدَّرةٌ مخلوقةٌ لله، واقعةٌ بقدرةِ اللهِ ومشيئته، لا يخرجُ شيءٌ منها عن ملكِ الله، فكلُّ ما يجري في الوجودِ من خيرٍ وشرٍّ؛ فهو بمشيئةِ اللهِ وخلقٌ لله، ومقدَّرٌ بتقديرِ اللهِ، وهو مَقضيٌّ بحُكْمِ اللهِ وقضائِه.
ويُفسَّرُ الخيرُ باللذاتِ وأسبابِها، والشرُّ بالآلامِ وأسبابِها، لكن هناك لذَّاتٌ في نفسِها لكنَّها أسبابٌ لآلامٍ طويلةٍ، فتكون في ذاتِها خيرًا، لكنَّها شرٌّ باعتبارِ ما تفضي إليه، فالمعاصي شرٌّ وإن استلذّتها النفوسُ؛ لأنّها تُفضي إلى أعظمِ الآلامِ.
أمَّا فِعْلُ الربِّ سبحانه: حُكْمُه وقضاؤه وتقديرُه فكلُّه خيرٌ، ليس فيه شرٌّ، والشرُّ لا يُضافُ إلى الله اسمًا، ولا صفةً ولا فعلًا، فالشرُّ لا يكون في أسمائِه فكلُّها حُسنى، ولا في صفاتِه فكلُّها صفاتُ كمالٍ وحمدٍ، ولا في أفعالِه فكلُّها أفعالُ عدلٍ وحِكمةٍ، وإنّما يكون في مفعولاتِه، أي: مخلوقاتِه، وهذا ما فُسِّرَ به قولُ النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (والشرُّ ليس إليك)؛ أنه تعالى لا يخلقُ شرًا محضًا؛ بل كلُّ الشرِّ الذي في المخلوقاتِ شرٌّ نسبيٌّ ليس شرًا محضًا.
والشرُّ الذي في المخلوقات لا يُضافُ إلى الله مفردًا أبدًا؛ بل إمَّا يدخل في عموم المخلوقات، كقوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78]، وكقوله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، يعني: الخيرَ والشرَّ. وإمّا بصيغةِ البناءِ للمفعول، كقولِه تعالى عن الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10]. وإمَّا أن يُضافَ إلى خلقِه سبحانه، كقوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2].
هذه الوجوهُ التي يُعبَّرُ بها في إضافةِ الشرِّ المخلوقِ.
وعلى هذا فلا ينبغي أن تقول: اللهُ خالقُ الشرِّ، لكنْ قل: اللهُ خالقُ كلِّ شيءٍ، وهذا معنى التعبير بالعموم، وقل: فلانٌ أُريدَ به السُّوءُ، ولا تقل: أرادَ اللهُ به.
وهكذا في النفعِ والضرِّ؛ فلا تقل: اللهُ هو الضارُّ؛ بل قل: اللهُ هو النافعُ الضارُّ، وهذا من جنسِ الأوّلِ في التعبير بالعمومِ. ومن هذا ما ذكرَ اللهُ من قولِ إبراهيمَ عليه السلام: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:77-80]، ولم يقل: وإذا أمرضني شفاني، وهذا من الأدبِ في الإخبارِ عن الله سبحانه وتعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق